فصل: تفسير الآيات (157- 158):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.التفسير الإشاري:

قال الألوسي:
ومن باب الإشارة: {وَكَأَيّن} وكم {مّن نَّبِىٍّ} مرتفع القدر جليل الشأن وهو في الأنفس الروح القدسية {قَاتَلَ مَعَهُ} عدو الله تعالى أعني النفس الأمارة {رِبّيُّونَ} متخلقون بأخلاق الرب وهم القوى الروحانية {فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ في سَبِيلِ الله} وطريق الوصول إليه من تعب المجاهدات {وَمَا ضَعُفُواْ} في طلب الحق {وَمَا استكانوا} وما خضعوا للسوي.
{والله يُحِبُّ الصابرين} [آل عمران: 146] على مقاساة الشدائد في جهاد النفس {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا} استر لنا وجوداتنا بإفاضة أنوار الوجود الحقيقي علينا {وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا} أي تجاوزنا حدود ظاهر الشريعة عند صدمات التجليات {وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا} في مواطن حروب أنفسنا {وانصرنا} بتأييدك وإمدادك {عَلَى القوم الكافرين} [آل عمران: 147] الساترين لربوبيتك {فاتاهم الله} بسبب دعائهم بألسنة الاستعدادات والانقطاع إليه تعالى: {ثَوَابَ الدنيا} وهو مرتبة توحيد الأفعال وتوحيد الصفات {وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة} وهو مقام توحيد الذات {والله يُحِبُّ المحسنين} [آل عمران: 148] في الطلب الذين لا يلتفتون إلى الأغيار {ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ} الإيمان الحقيقي {إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ} وهم النفوس الكافرة وصفاتها {يَرُدُّوكُمْ على أعقابكم} إلى أسفل سافلين وهو سجين البهيمية {فَتَنقَلِبُواْ} ترجعوا القهقرى {خاسرين} [آل عمران: 149] أنفسكم {بَلِ الله مولاكم} ناصركم {وَهُوَ خَيْرُ الناصرين} [آل عمران: 150] لمن عول عليه وقطع نظره عمن سواه {سَنُلْقِى في قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} أي الخوف {بِمَا أَشْرَكُواْ} أي بسبب إشراكهم {بالله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ} أي بوجوده {سلطانا} أي حجة إذ لا حجة على وجوده حتى ينزلها لتحقق عدمه بحسب ذاته، وجعل سبحانه إلقاء الرعب في قلوبهم مسببًا عن شركهم لأن الشجاعة وسائر الفضائل اعتدالات في قوى النفس عند تنورها بنور القلب المنور بنور التوحيد فلا تكون تامة حقيقية إلا للموحد الموقن، وأما المشرك فمحجوب عن منبع القوة بما أشرك ما لا وجود ولا ذات في الحقيقة له فهو ضعيف عاذ بقرملة {وَمَأْوَاهُمُ النار} وهي نار الحرمان {وَبِئْسَ مثوى الظالمين} [آل عمران: 151] الذين وضعوا الشيء في غير موضعه وعبدوا أسماء سموها ما أنزل الله تعالى بها من كتاب {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ} المشروط بالصبر والتقوى {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ} أي تقتلون جنود الصفات البشرية قتلًا ذريعًا {بِإِذْنِهِ} وأمره لا على وفق الطبع {حتى إِذَا فَشِلْتُمْ} جبنتم عند تجلي الجلال {وتنازعتم في الأمر} وخالفتم في أمر الطلب {وَعَصَيْتُمْ} المرشد المربي {مّن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ} من الفوز بأنوار الحضرة {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا} لقصور همته وضعف رأيه {وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة} لطول باعه وقوة عقله {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} أي عن أعداء نفوسكم وجنودها {لِيَبْتَلِيَكُمْ} أي يمتحنكم بالستر بعد التجلي بأنوار المشاهدات والصحو بعد السكر بأقداح الواردات والفطام بعد إرضاع ألبان الملاطفات كما يقتضي ذلك الجلال {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} بعد ذلك فانقطعتم إليه كما هو مقتضى الجمال {والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين} [آل عمران: 152]، في طوري التقريب والإبعاد، وما ألطف قول من قال:
فقسا ليزدجروا ومن يك حازما ** فليقس أحيانًا على من يرحم

{إِذْ تُصْعِدُونَ} في جبل التوجه إلى الحق {وَلاَ تَلْوُونَ} أي لا تلتفتون {على أَحَدٍ} من الأمرين الدنيا والآخرة {والرسول} أي رسول الواردات {يَدْعُوكُمْ} إليّ عباد الله إليّ عباد الله {فأثابكم غَمًّا بِغَمّ} فجازاكم بدل غم الدنيا والآخرة بغم طلب الحق {لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ على مَا فَاتَكُمْ} من زخارف الدنيا {وَلاَ مَا أصابكم} من صدمات تجلي القهر {والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 153] لأنه سبحانه أقرب إليكم منكم {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ الغم أَمَنَةً نُّعَاسًا} أي واردًا من ألطافه ظهر في صورة النعاس وهو السكينة الرحمانية {يغشى طَائِفَةً مّنْكُمْ} وهم الصادقون في الطلب {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} وهم أرباب النفوس فإنهم لا هم لهم سوى حظ نفوسهم واستيفاء لذاتها {يَظُنُّونَ بالله غَيْرَ الحق} بمقتضى سوء استعدادهم {يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَئ} أي إن الخلق حالوا بيننا وبين التدبير ولو لم يحولوا لفعلنا ما به صلاحنا {قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ} فهو المتصرف وحده حسبما يقتضيه الاستعداد فلا تدبير مع تدبيره ولا وجود لأحد سواه {يُخْفُونَ في أَنْفُسِهِم} الخبيثة {مَّا لاَ يُبْدُونَ} بزعمهم لك أيها المرشد الكامل {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شيء مَّا قُتِلْنَا} بسيف الشهوات {هاهنا} أي في هذه النشأة {قُل لَّوْ كُنتُمْ في بُيُوتِكُمْ} وهي منازل العدم الأصلي قبل ظهور هذه التعينات {لَبَرَزَ} على حسب العلم {الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل} في لوح الأزل {إلى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران: 154] وهي بيداء الشهوات، فقد قال سبحانه: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ في الأرض وَلاَ في أَنفُسِكُمْ إِلاَّ في كتاب مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا} [الحديد: 22] أي نظهرها بهذا التعين، وإنما فعل سبحانه ما فعل لحكم شتى {عَبْدُ الله} تعالى: {مَا في صُدُورِكُمْ} أي ليمتحن ما في استعدادكم من الصدق والإخلاص والتوكل ونحو ذلك من الأخلاق ويخرجها من القوة إلى الفعل {وَلِيُمَحّصَ مَا في قُلُوبِكُمْ} أي يخلص ما برز من مكمن الصدر إلى مخزن القلب من غش الوساوس وخواطر النفس فإن البلاء سوط يسوق الله تعالى به عباده إليه، ولهذا ورد «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل» ولله تعالى در من قال:
لله در النائبات فإنها ** صدأ اللئام وصيقل الأحرار

ما كنت إلا زبرة فطبعنني ** سيفًا وأطلع صرفهن غراري

وذلك لأنهم حينئذٍ ينقطعون إلى الحق ولا يظهر على كل منهم إلا ما في مكمن استعداده كما قيل: عند الامتحان يكرم الرجل أو يهان، والخطاب في كلا الموضعين للمؤمنين، وقيل: إن الخطاب الأول: للمنافقين، والثاني: للمؤمنين وأنه سبحانه إنما خص الصدور بالأولين لأن الصدر معدن الغل والوسوسة فهو أوفق بحال المنافقين، وخص القلوب بالآخرين لأن القلب مقر الإيمان والاطمئنان وهو أوفق بحال المؤمنين وأن نسبة الإسلام باللسان إلى الإيمان بالجنان كنسبة الصدر إلى القلب قيل: ولهذا قال سبحانه: {والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} [آل عمران: 154] بناءًا على أن المراد به الترهيب والتحذير عن الاتصال بما لا يرضى من تلك الصفات التي يكون الصدر مكمنًا لها {إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان} جمع الروح وقواها وجمع النفس وقواها {إِنَّمَا استزلهم الشيطان بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ} من الذنوب لأنها تورث الظلمة والشيطأن لا مجال له على ابن آدم بالتزيين والوسوسة إلا إذا وجد ظلمة في القلب، ولك أن تبقي الجمعين على ظاهرهما وباقي الإشارة بحاله {وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ} حين استنارت قلوبهم بنور الندم والتوبة {إنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران: 155] وبمقتضى ذلك ظهرت المخالفات وأردفت بالتوبة ليكون ذلك مرآة لظهور صفات الله تعالى.
ومن هنا جاء «لو لم تذنبوا لأتى الله تعالى بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم».
وحكي أن إبراهيم بن أدهم رضي الله تعالى عنه أكثر ليلة في الطواف من قوله: اللهم اعصمني من الذنوب فسمع هاتفًا من قلبه يقول يا إبراهيم أنت تسأله العصمة وكل عباده يسألونه العصمة فإذا عصمكم على من يتفضل وعلى من يتكرم {يا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين كَفَرُواْ} برؤية الأغيار واعتقاد تأثير السوي، وقالوا لأجل إخوانهم إذا ضربوا في الأرض إذا فارقوهم بترك ما هم عليه وسافروا في أرض نفوسهم وسلكوا سبيل الرشاد {أَوْ كَانُواْ} أي مجاهدين مع أعدى أعدائهم وهي نفوسهم التي بين جنوبهم وقواها وجنودها من الهوى والشيطان {غُزًّى لَّوْ كَانُواْ} مقيمين {عِنْدِنَا} موافقين لنا {مَا مَاتُواْ} بمقاساة الرياضة {وَمَا قُتِلُواْ} بسيف المجاهدة، ولاستراحوا من هذا النصب {لِيَجْعَلَ الله ذلك} أي عدم الكون مثلهم {حَسْرَةً} يوم القيامة {فِى قُلُوبِهِمْ} حين يرون ما أعد الله تعالى لكم {والله يُحْيىِ} من يشاء بالحياة الأبدية {وَيُمِيتُ} من يشاء بموت الجهل والبعد عن الحضرة {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [آل عمران: 156] تحذير عن الميل إلى قول المنكرين واعتقادهم.
{وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ} أيها المؤمنون {فِى سَبِيلِ الله} أي في الجهاد {أَوْ مُتُّمْ} حتف الأنف وأنتم متلبسون به فعلًا أو نية. اهـ.

.تفسير الآيات (157- 158):

قوله تعالى: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ الله وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى الله تُحْشَرُونَ (158)}

.مناسبة الآيتين لما قبلهما:

قال البقاعي:
ولما نهاهم عن قول المنافقين الدائر على تمني المحال من دوام البقاء وكراهة الموت بيّن لهم ثمرة فوات أنفسهم في الجهاد بالموت أو القتل ليكون ذلك مبعدًا لهم مما قال المنافقون موجبًا لتسليم الأمر للخالق بل محببًا فيه وداعيًا إليه فقال: {ولئن} وهو حال أخرى من لا تكونوا {قتلتم} أي من أية قاتل كان {في سبيل الله} أي الملك الأعظم قتلًا {او متم} أي فيه موتًا على أية حالة كانت.
ولما كان للنفوس غاية الجموح عن الموت زاد في التأكيد فقال: {لمغفرة} أي لذنوبكم تنالكم فهذا تعبد بالخوف من العقاب {من الله} أي الذي له نهاية الكمال بما كنتم عليه من طاعة {ورحمة} أي لأجل ذلك وهو تعبد لطلب الثواب {خير مما يجمعون} أي مما هو ثمرة البقاء في الدنيا عند أهل الشقاء مع أنه ما فاتكم شيء من أعماركم.
ولما ذكر أشرف الموت بادئًا بأشرفه ذكر ما دونه بادئًا بأدناه فقال: {ولئن متم أو قتلتم} أي في أي وجه كان على حسب ما قدر عليكم في الأزل {لإلى الله} أي الذي هو متوفيكم لا غيره، وهو ذو الجلال والإكرام الذي ينبغي أن يعبد لذاته.
ودل على عظمته بعد الدلالة بالاسم الأعظم بالبناء للمجهول فقال: {تحشرون} فإن كان ذلك الموت أو القتل على طاعته أثابكم وإلا عاقبكم، والحاصل أنه لا حيلة في دفع الموت على حالة من الحالات: قتل أو غيره، ولا في الحشر إليه سبحانه وتعالى، وأما الخلاص من هول ذلك اليوم ففيه حيلة بالطاعة.
والله سبحانه وتعالى الموفق.
وما أحسن ما قال عنترة في نحوه وهو جاهلي، فالمؤمن أولى منه بمثل ذلك:
بكرت تخوفني الحتوف كأنني ** أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل

فأجبتها إن المنية منهل ** لابد أن أسقى بكأس المنهل

فاقني حياءك لا أبا لك واعلمي ** أني امرؤ سأموت إن لم أقتل

.من أقوال المفسرين:

.قال أبو السعود:

{وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ في سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ} شروعٌ في تحقيق أن ما يحذرون ترتُّبَه على الغزو والسفر من القتل والموتِ في سبيل الله تعالى ليس مما ينبغي أن يُحذر، بل مما يجب أن يتنافسَ فيه المتنافسون إثرَ إبطالِ ترتُّبِه عليهما. اهـ.

.قال الفخر:

قوله تعالى: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ الله وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}.
اعلم أن هذا هو الجواب الثاني عن شبهة المنافقين، وتقريره أن هذا الموت لابد واقع ولا محيص للإنسان من أن يقتل أو يموت، فإذا وقع هذا الموت أو القتل في سبيل الله وفي طلب رضوانه، فهو خير من أن يجعل ذلك في طلب الدنيا ولذاتها التي لا ينتفع الإنسان بها بعد الموت ألبتة، وهذا جواب في غاية الحسن والقوة، وذلك لأن الإنسان إذا توجه إلى الجهاد أعرض قلبه عن الدنيا وأقبل على الآخرة، فإذا مات فكأنه تخلص عن العدو ووصل إلى المحبوب، وإذا جلس في بيته خائفا من الموت حريصًا على جمع الدنيا، فإذا مات فكأنه حجب عن المعشوق وألقي في دار الغربة، ولا شك في كمال سعادة الأول، وكمال شقاوة الثاني. اهـ.
فصل:
قال الفخر:
قال الواحدي رحمه الله: اللام في قوله: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ} لام القسم، بتقدير الله لئن قتلتم في سبيل الله، واللام في قوله: {لَمَغْفِرَةٌ مّنَ الله وَرَحْمَةٌ} جواب القسم، ودال على أن ما هو داخل عليه جزاء، والأصوب عندي أن يقال: هذه اللام للتأكيد، فيكون المعنى إن وجب أن تموتوا وتقتلوا في سفركم وغزوكم، فكذلك يجب أن تفوزوا بالمغفرة أيضا، فلماذا تحترزون عنه كأنه قيل: إن الموت والقتل غير لازم الحصول، ثم بتقدير أن يكون لازمًا فإنه يستعقب لزوم المغفرة، فكيف يليق بالعاقل أن يحترز عنه؟. اهـ.

.قال أبو السعود:

واللام في قوله تعالى: {لَمَغْفِرَةٌ مّنَ الله وَرَحْمَةٌ} لامُ الابتداء، والتنوينُ في الموضعين للتقليل، ومِنْ متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً للمبتدأ، وقد حُذفت صفةُ رحمةٌ لدِلالة المذكورِ عليها، والجملةُ جوابٌ للقسم سادٌّ مسدَّ جوابِ الشرطِ والمعنى أن السفرَ والغزوَ ليس مما يجلُب الموتَ ويقدّم الأجلَ أصلًا ولئن وقع ذلك بأمر الله تعالى لنفحةٌ يسيرةٌ من مغفرة ورحمةً كائنتين من الله تعالى بمقابلة ذلك {خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ} أي الكفرةُ من منافعِ الدنيا وطيّباتها مدةَ أعمارِهم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما خيرٌ من طِلاع الأرضِ ذَهَبةً حمراءَ. اهـ.

.قال الطبري:

يخاطب جل ثناؤه عباده المؤمنين، يقول لهم: لا تكونوا، أيها المؤمنون، في شك من أن الأمور كلها بيد الله، وأن إليه الإحياء والإماتة، كما شك المنافقون في ذلك، ولكن جاهدوا في سبيل الله وقاتِلوا أعداء الله، على يقين منكم بأنه لا يقتل في حرب ولا يموت في سفر إلا من بلغ أجله وحانت وفاته. ثم وعدهم على جهادهم في سبيله المغفرة والرحمةَ، وأخبرهم أن موتًا في سبيل الله وقتلا في الله، خير لهم مما يجمعون في الدنيا من حُطامها ورغيد عيشها الذي من أجله يتثاقلون عن الجهاد في سبيل الله، ويتأخرون عن لقاء العدو. اهـ.

.قال الفخر:

قرأ حفص عن عاصم (يجمعون) بالياء على سبيل الغيبة، والباقون بالتاء على وجه الخطاب، أما وجه الغيبة فالمعنى أن مغفرة الله خير مما يجمعه هؤلاء المنافقون من الحطام الفاني، وأما وجه الخطاب فالمعنى أنه تعالى كأنه يخاطب المؤمنين فيقول لهم مغفرة الله خير لكم من الأموال التي تجمعونها في الدنيا. اهـ.

.قال الشنقيطي:

ذكر في هذه الآية الكريمة أن المقتول في الجهاد والميت كلاهما ينال مغفرة من الله ورحمة خيرًا له مما يجمعه من حطام الدنيا وأوضح وجه ذلك في آية أخرى بين فيها أن الله اشترى منه حياة قصيرة فانية منغصة بالمصائب والآلام بحياة أبدية لذيذة لا تنقطع ولا يتأذى صاحبها بشيء واشترى منه مالًا قليلًا فانيًا بملك لا ينفد ولا ينقضي أبدًا وهي قوله: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التوراة والإنجيل والقرآن وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم} [التوبة: 111] وقال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} [الإنسان: 20] وبين في آية أخرى أن فضل الله ورحمته خير مما يجمعه أهل الدنيا من حطامها وزاد فيها الأمر بالفرح بفضل الله ورحمته دون حطام الدنيا وهي قوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُون} [يونس: 58] وتقديم المعمول يؤذن بالحصر أعني قوله: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} أي: دون غيره فلا يفرحوا بحطام الدنيا الذي يجمعونه.
وقال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُون} [الزخرف: 32]. اهـ.

.قال الفخر:

إنما قلنا: إن رحمة الله ومغفرته خير من نعيم الدنيا لوجوه:
أحدها: أن من يطلب المال فهو في تعب من ذلك الطلب في الحال، ولعله لا ينتفع به غدا لأنه يموت قبل الغد وأما طلب الرحمة والمغفرة فإنه لابد وأن ينتفع به لأن الله لا يخلف وعده، وقد قال: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7].
وثانيها: هب أنه بقي إلى الغد لكن لعل ذلك المال لا يبقى إلى الغد، فكم من انسان أصبح أميرا وأمسى أسيرا، وخيرات الآخرة لا تزول لقوله: {والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ} [الكهف: 46] ولقوله: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ} [النحل: 96].
وثالثها: بتقدير أن يبقى إلى الغد ويبقى المال إلى الغد، لكن لعله يحدث حادث يمنعك عن الانتفاع به مثل مرض وألم وغيرهما، ومنافع الآخرة ليست كذلك.
ورابعها: بتقدير أنه في الغد يمكنك الانتفاع بذلك المال، ولكن لذات الدنيا مشوبة بالآلام ومنافعها مخلوطة بالمضار، وذلك مما لا يخفى، وأما منافع الآخرة فليست كذلك.
وخامسها: هب أن تلك المنافع تحصل في الغد خالصة عن الشوائب ولكنها لا تدوم ولا تستمر، بل تنقطع وتفنى، وكلما كانت اللذة أقوى وأكمل، كان التأسف والتحسر عند فواتها أشد وأعظم، ومنافع الآخرة مصونة عن الانقطاع والزوال.
وسادسها: أن منافع الدنيا حسية ومنافع الآخرة عقلية، والحسية خسيسة، والعقلية شريفة، أترى أن انتفاع الحمار بلذة بطنه وفرجه يساوي ابتهاج الملائكة المقربين عند إشراقها بالأنوار الإلهية، فهذه المعاقد الستة تنبهك على ما لانهاية لها من الوجوه الدالة على صحة قوله سبحانه وتعالى: {لَمَغْفِرَةٌ مّنَ الله وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ}. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ}:

.قال الفخر:

اعلم أنه سبحانه وتعالى رغب المجاهدين في الآية الأولى بالحشر إلى مغفرة الله، وفي هذه الآية زاد في إعلاء الدرجات فرغبهم هاهنا بالحشر إلى الله، يروى أن عيسى بن مريم صلوات الله عليه وسلامه مر بأقوام نحفت أبدانهم واصفرت وجوههم، ورأى عليهم آثار العبادة، فقال ماذا تطلبون؟ فقالوا: نخشى عذاب الله، فقال: هو أكرم من أن لا يخلصكم من عذابه، ثم مر بأقوام آخرين فرأى عليهم تلك الآثار فسألهم، فقالوا: نطلب الجنة والرحمة، فقال: هو أكرم من أن يمنحكم رحمته ثم مر بقوم ثالث ورأى آثار العبودية عليهم أكثر، فسألهم فقالوا: نعبده لأنه إلهنا، ونحن عبيده لا لرغبة ولا لرهبة، فقال: أنتم العبيد المخلصون والمتعبدون المحقون، فانظر في ترتيب هذه الآيات فإنه قال في الآية الأولى: {لَمَغْفِرَةٌ مّنَ الله} وهو إشارة إلى من يعبده خوفا من عقابه، ثم قال: {وَرَحْمَةً} وهو إشارة إلى من يعبده لطلب ثوابه، ثم قال في خاتمة الآية: {لإِلَى الله تُحْشَرُونَ} وهو إشارة إلى من يعبد الله لمجرد الربوبية والعبودية، وهذا أعلى المقامات وأبعد النهايات في العبودية في علو الدرجة، ألا ترى أنه لما شرف الملائكة قال: {وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأنبياء: 19] وقال للمقربين من أهل الثواب: {عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ} [القمر: 55] فبين أن هؤلاء الذين بذلوا أنفسهم وأبدانهم في طاعته ومجاهدة عدوه يكون حشرهم إليه، واستئناسهم بكرمه، وتمتعهم بشروق نور ربوبيته، وهذا مقام فيه إطناب، والمستبصر يرشده القدر الذي أوردناه.
ولنرجع إلى التفسير: كأنه قيل إن تركتم الجهاد واحترزتم عن القتل والموت بقيتم أياما قليلة في الدنيا مع تلك اللذات الخسيسة، ثم تتركونها لا محالة، فتكون لذاتها لغيركم وتبعاتها عليكم، أما لو أعرضتم عن لذات الدنيا وطيباتها، وبذلتم النفس والمال للمولى يكون حشركم إلى الله، ووقوفكم على عتبة رحمة الله، وتلذذكم بذكر الله، فشتان ما بين هاتين الدرجتين والمنزلتين. اهـ.